والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً:
وبعد/
إن المتأمل لواقع المسلمين يُنبئ عن قدر كبير من الاختلاف في القضايا
ربما تكون مفهومة أحياناً ، وغير مفهومة في كثير من الأحيان.
كلنا نتحدث بهدوء عن أخلاقيات الاختلاف، وقد نضع نظريات جميلة من الناحية اللفظية،
لكنَّ القليل منا هم أولئك الذين يستطيعون أن يطبقوا هذه النظريات، ويحولوها إلى واقع
في سلوكهم العملي!!وفي علاقاتهم مع الآخرين حينما يختلفون معهم، ولعل السر في ذلك
أننا نلتمس من الآخرين أن يلتزموا بأخلاقيات الخلاف حينما يختلفون معنا،
لكننا لا نلتمس من أنفسنا الالتزام بهذه الأخلاقيات حينما نختلف معهم.
إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا،
وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته.أما أنه عبادة؛ فلأنه طاعة لله ورسوله واتباع لسنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وأما أن يتحول إلى عادة؛ فحين يتربى المرء عليه، ويصبح سجية وطبعاً لا يتكلفه، ولا يشق عليه.
][][^][][الجميع بحاجة إلى مراعاة أدب الخلاف وأخلاقيات الحوار:][][^][][* نعم! نحن نتحدث، ويجب أن نتحدث عن أدب الخلاف، لكن نحتاج إلى وضع آليات لإدارة الخلاف،
الذي يقع بيننا ولابد أن يقع .
ساحات الحوارنحن اليوم في عصر الفضاء، وفي عصر الإنترنت، حتى الحكومات أدركت أن أسلوب
المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي،
وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، ومقابلة الحجة بالحجة.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، من الآراء والتوجهات والأقاويل، مما
يعتقدون وما لا يعتقدون،
وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مُجدياً تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم،
أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر
بالفكر،
فالتناسب بين الداء والدواء ضروريٌ حتى يتقبل الجسم العلاج، وينتفع به.
لقد أصبح الإنترنت وساحات الحوار ـ وهي كثيرة جداً تعد بالمئات باللغة العربية،
فضلا عن التعليقات في كل مواقع الإنترنت ـ مرآةً تكشف الخلل الكبير في آلية الحوار،
وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المؤمنين والمسلمين، وأهل العلم، وأهل
الدعوة، وأهل السنة،
وهي دائرة واسعة جداً ، سواءً فيما يتعلق بالدين وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة العامة
وإدراكها وتحقيقها،
وترتب على ذلك سلبيات في هذا الحوار الإلكتروني كثيرة، منها:1-إن لم تكن معي فأنت ضدي، أو بمعنى آخر إما صفر أو مائة في المائة؛ فهناك المفاصلة بل والمقاصلة،
بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو التفاوت ـ
حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة ـ نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من أن نكون أصدقاء أوفياء.
2) الخلط بين الموضوع والشخص؛فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة،
أو مسألة إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا
الإنسان أو ذاك،
وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من الطعون غير المحققة.
3) تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي,
وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم أنه لو كان النجاح والفلاح بالمجادلة
بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه،
وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء، وفي المثل:
العربة الفارغة أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة الملأى. { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53)
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83)
إن هذه القاعدة الإلهية توجهنا نحو التزام حسن الكلام وتجنب الفاحش منه ،
والقول الحسن يتأتى من خلال :
أ ـ التعبير بلغة بسيطة غير ملتبسة ولا غامضة، ومن
أحسن الكلام ما يعبر عن حقيقة ما في قلبك دون ستر
للحقيقة وبثوب لفظي لطيف.
ب ـ الرفق في الكلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
يَخْشَى} [طـه].
جـ ـ التأدب في الخطاب: {... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا...} [الأنعام: 152]،
د ـ الابتعاد عن اللغو,واللغو فضل الكلام وما لا طائل تحته، فلا يخوض المحاور فيما لا يثري المحاورة، قال تعالى:
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون].
وفي الحديث الشريف: [[طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه]].
والابتعاد عما لا يفيد في الحوار يحفظ هيبة المحاور، ويحفظ وقته، وأوقات الآخرين.
هـ ـ توضيح المضمون باستخدام ما يفهم من التعابير دون
تقعّر أو تكلف، وفي الحديث الصحيح:
[[هلك المتنطعون]] وكذلك: [[إن أبغضكم إليّ وأبعدكم عني مجلسًا الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون]].
من هنا نفهم أن المحاور العاقل طالب الحق ، ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ،
وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه :
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
(الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سـبأ:24) .
مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ،
ولو كانت الحجة بيّنه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد
تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ،
وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو
وُجِدَت القناعة العقلية .
والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار
الأعداء واستكفاء الإناء .
وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً .
ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء
للنفس وللغير ،
ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت
العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب –
إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل .
وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ،
والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ،
وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)
5) الأُحادية، وأعني بها: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"
بحيث يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى، ولا قرآناً يُتلى،
ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو رأي قاصر محتمل أن يكون صواباً.
6) القطعية؛ وأعني بها قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب،
7) ثم هناك التسطيح والتبسيط، فالأشياء التي لا نفهمها أو يشق علينا فهمها، أو تحتاج إلى روية وتأمل وتدبر،
هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة، بينما الأشياء البسيطة السطحية السهلة
الفهم يُخيل إلينا أن
فيها الحق والصواب،
وأنها الموافقة للكتاب، وهكذا ما تجده في القنوات الفضائية، فكم من برامج الحوارات التي تُدار,
ويتناطح فيها أقوامٌ من كافة الاتجاهات والمذاهب والمشارب؛ فتجد الصخب واللجاج،
وانتفاخ الأوداج، والصفاقة والإحراج،
وخذ إليك بعض الأمثلة التي وقفت عليها هنا أو هناك:* فلانٌ لا كرامة له عند الله تعالى، وعند كل موحدٍ لله العظيم.فانظر الجرأة على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الصالحين، وأن تتحول أذواقنا،
أو مشاعرنا السلبية تجاه هذا الشخص الذي لا نحبه أو لا نحترمه إلى الحكم على منزلته
عند الله وعند أولياءه
* فلانٌ منحرف في العقيدة مفتون في نفسه، وقد يكون أصفى من القائل عقيدة، وأصدق منه مذهباً، وأقوم بالكتاب والسنة.* فلان من المنافقين، وكأن صاحبنا أخذ من حذيفة بن اليمان؛ بل كأنه تلقى من جبريل الأمين،
وهذا كله يقتضي تزكية النفس، والثناء عليها بشكل مباشر أو غير مباشر!!
وماذا تتوقع أن يكون الحوار إذا اعتقد كل طرف أن ما هو عليه صواب قطعي، وأن ما عليه خصمه خطأ قطعي؟وقد تكون المسألة كلها محل نظر وتردد، وليس فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وحتى في حالة القطع حينما يكون ما تقوله صواباً قطعاً، وما يقوله الآخر خطأً قطعاً؛
فإن من الحكمة أن تبدأ الدعوة والحوار بدائرة المتفق عليه،
كما علمنا ربنا عز وجل:
" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[آل عمران]
؛
وقال الله سبحانه وتعالى: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً"[الإسراء].
ذلك ولايخفى على اللبيب متى يتحدث ومتى يصمت ولعل عقله يرشده لمواقف الصمت،
فليس من صالحك التعقيب
على كل شيء وأي شيء فالصمت أحياناً أبلغ من عشرات المقالات .
الصمـــــــــــت: ـ خطوة نحو الكلمة الصائبة لاختيارها.
ـ يزيد العلم ويعلم المرء الحلم.
ـ الصمت بريد السلامة:
[[رحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم]].وأخيراً لكل عاقل
:(لاتجادل الأحمق فقد يخطيء الناس في التفريق بينكما)...وهذا والله نــــسأل أن يــــهدينا وإيــــاكم إلى سواء الســـيبل..
..منقول بتصرف..